قصة قصيرة / عز الدين حسين

 قصة قصيرة... 


أبو زكريا بائع الترمس  :::


أتركوني اكتب َقصة ذاك الرجل الذي يلتقط رزق أطفاله من خلال بيعه حبات الترمس و فول الكستنة.. 

لم يكن أبو زكريا كهلا بل كان شابا في العقد الرابع من عمره بعد أن تزوج و انجب من الأطفال ذكورا و اناثا عدد أصابع الكف الواحد،. و لم يكن كفه يجيد اي عمل أو أي صنعة و بالكاد كانت اصابعه تساعده في خط الحرف و رسم صورة عربة خشبية ذات اربع عجلات و يضع كل ما لديه على ظهرها ما يراه في حلمه من أشياء يبيعها للناس من بعض الخضروات و الفواكه رخيصة الثمن و كانت تلك الأشياء تتغير من حلم لحلم آخر ، فأحيانا يرى في حلمه انه يبيع بعض الأدوات المنزلية المستعملة و الكثير من الأشياء التي يراها في أحلامه. 

آفاق أبو زكريا ذات ليلة من حلم ازعجه كثيرا و هو يجهش بالبكاء لما شاهده في حلمه و هو يرى عربته تنكسر أمام عينيه، جلس القرفصاء على أرض مسطبة غرفته التي لا تحوي إلا القليل من الفرش البسيط و طلت من على شفتيه ابتسامة باهتة و حزينة و هو يقول شر البلية ما يضحك و هو يوجه اللوم لنفسه و يقول أبكي عربتي التي تكسرت و انا ليس لدى اي عربة،  توجه لربه بدعاء المتألم بأن يساعده الله في الحصول على عربة ليستخدمها في البيع و الاسترزاق ليكفل لزوجته و أبنائه لقمة عيش حلال. 

قرر أبو زكريا أن يصنع تلك العربة، و لكن تذكر بأن ليس لديه المال الكافي لذلك و لكن امعن في التفكر واهداه تفكيره بأن يستدين من أحد أصدقائه  مبلغا من المال ليحقق حلمه و هدفه ، و لكن لا أحد من الأصدقاء وافق على أن يعطيه اي مبلغ وجميعهم اعتذروا و تحججوا بالضائقة المالية التي يمرون بها . 

هداه تفكيره بالتوجيه إلى أحد مصانع تلك العربات فالتقى بصديق قديم كان يشاركه في مهنة صناعة مختلف الحلويات و السكاكر و أصبح الان يمتلك ذاك المصنع فرحب به و كان يظن بأنه لا زال يمارس مهنة صناعة الحلويات و بيعها في مختلف الأسواق . 

كيف الحال يا صديقي أبو زكريا أخبرني عن أحوالك منذ مدة طويلة لم ارك . 

تنهد أبو زكريا تنهيدة شعر صديقه محمود بألمه و تمنى لو لم يسأله الا ان أبو زكريا قال له أتريد أن تعرف احوالي؟ . 

اذا لم يضايقك ذلك يا ابو زكريا . 

بالعكس هذا يساعدني من تفريغ الألم الذي يملأ صدري .اخذ صديقه محمود بيده قائلا له تعال نجلس في   الجانب الأخ من المصنع بعيدا عن أصوات الأجهزة التي يستخدمها العمال لصناعة العربات . 

جلسا قباله بعضهما و أوصى صديقه محمود احد العمال بأن يصنع لهما كوبين من الشاي . 

خبرني يا أبو زكريا لماذا صار حالك هكذا و انت كنت من أشهر صانعي الحلويات المختلفة و انشط البائعين حيث كنت تجوب جميع الأسواق في مختلف الأماكن و احسبك بأنك خلال تلك الفترة قد جمعت من الأموال  ما يكفي لتغطية كافة احتياجاتك . 

تنهد أبو زكريا بألم اسأل من عيناه دموعاً حزنه شعر بحرارته صديقه محمود . 

هون عليك يا ابو زكريا ماذا جرى معك أخبرني . 

اليوم يا صديقي محمود ليس لدي أي عمل و جئتك لتساعدني في الحصول على عربة خشبية ذات الاربع عجلات

و ماذا تريد أن تفعل بها يا ابو زكريا ، لاستخدمها  في البيع . 

و ماذا تريد أن تبيع و انت قد تركت صناعة الحلويات ؟ أريد استخدامها لأضع عليها الترمس و الفول النابت بعد تجهيزه و ادور بها في بعض الشوارع لأبيعه للناس و قد حددت المكان الأكثر تواجدا للناس فيه . 

و أين هذا المكان.

شارع البحر الكورنيش صديقي محمود و هناك شاهدت العديد ممن يبيعون الذرة و أشياء أخرى للمرأة . 

فكرة ممتازة يا ابو زكريا أن شاء الله خلال يومين ستكون العربة جاهزة و لكن كيف و أين يمكنني أن ارسلها لك.

انا ليس لي مكان محدد لأنني اسكن بالإيجار في أماكن صعب عليك الوصول إليها فسأقوم بالحضور هنا لاستلامها.

بدت علامات الدهشة و الاستغراب على وجه محمود و هو يسأل صديقه أبو زكريا ألم يكن لديكم منزلا كبيراً مكون من عدة أدوار و انت تسكن في أحدها . 

و الله يا صديقي محمود كل شيء راح  في مهب الريح . 

كيف يا  أبو زكريا ! هل تم قصفه من قِبَل طائرات الاحتلال أثناء الحرب ؟ 

و الله لو قصف من قبل طائرات الاحتلال و تم تدميره اهون علينا من ما حدث معنا على الاقل يبقى عندنا أمل بأن يعاد بناء العمارة من قِبَل لجان التعويض و اعادة الأعمار. لكن ما حصل لنا و معنا اننا طول فترة عملي انا و اخوتي الثلاثة على مدى أكثر من خمسة عشر سنة قضيناه في صناعة مختلف الحلويات و السكاكر و بيعها في مختلف الأسواق و نعود كل يوم في الليل منهكين من العمل و نسلم والدنا جميع ما نحصل عليه من مبالغ و كانت كثيرة جداً ، تمكن والدنا بهذه الأموال من بناء منزل لنا و رفض تسجيل ملكية اي جزء منه لأي واحد من الأخوة و ظل المنزل بكامله باسم الوالد الذي كان صعب المراس و عصبي و لم يكن لديه اي نوع من عاطفة الابوة و كان يُغذي الخلافات بين الأخوة ، الأمر الذي اضطرنا جميعا لترك ذلك البيت حيث كان يهددنا بأنه سيقوم ببيعه و يحرمنا جميعا من اي مبالغ . 

باع والدي البيت و أصبحنا جميعا بلا عمل و بلا بيوت . 

حزن محمود لما مر به صديقه أبو زكريا من ظروف قاسية و قرر أن يصنع له العربة دون أن يأخذ ثمنها و هو يعلم بأن ليس لديه مال لتسديد ثمنها . 

و لكن أبو زكريا رفض الا ان يدفع ثمنها بالتقسيط المريح بحيث انه كل ما توفر لديه مبلغاً من المال يقوم بدفعه له . 

اتفقا على ذلك و أصبح أبو زكريا من أشهر بائعي الترمس و الفول النابت على كورنيش البحر و أصبح معروفا للكثيرين و يأتي له العديد من الناس و الأطفال للشراء منه و هم يطربون لصوته و كلماته التي يناشد من خلالها الناس ويدعوهم للحضور لشراء الترمس بالليمون. كانت كلماته جذابة بصوته العذب المنطلق عبر مكبر صوت يدوي صغير كان يستخدمه  لهذا الغرض .

كُنت ذات يوم وقبل غروب الشمس ذاهبٌ لأمارس رياضة المشيّ على رصيف الكورنيش عندما فاجأني أحدى الرجال وهو يلقي بجسمه أمام عجلات احدى سيارات الشرطة المكلفة بالحراسة وتوفير الأمان للناس المتواجدين والمارين على رصيف الكورنيش ،  فاندفعت مسرعاً نحوه وأخذت بيده لأُبعده عن متناول هراوات رجال الشرطة الذين هموا بضربه، ودار بينهم وبينه حديث عنيف وهم يوبخونه  وهو يصرخ بأعلى صوته لماذا تحاولون منعي من البيع فهذا مصدر رزق لأبنائي ، تقدم بعض الرجال ومعظمهم يعرفون الظروف الصعبة التي يعيشها أبو زكريا و تمكنوا من استعادة مكبر الصوت الذي صادرته منه الشرطة بحجة ازعاج المارة  .

ذهبوا جميعاً وأنا معهم لتسليم أبو زكريا مكبر الصوت خاصته ، فشكرهم ولكنني بقيت بجوار عربته أراقب سلوكه وهو يحاول إصلاح مكبر الصوت الذي قام أحد رجال الشرطة بتعطيله ، وقمت بسؤاله عن سبب ألقاء نفسه أمام عجلات سيارة الشرطة ، فقال لأمنعهم من مصادرة ليس مكبر الصوت فقط بل العربة أيضاً ، وكل ذلك بسبب أن أحد سكان الأبراج السكنية البعيدة نسبياً يشتكي من صوت مكبر الصوت الذي بالكاد يسمعه من هم على بعد عشرة أمتار في حين أصوات السيارات التي تجوب الشارع بمكبرات صوت ضخمة وهي تطلق أصوات الغناء لم يشتكيها أحد  ..

هدأت من روع أبو زكريا وطلب مني الجلوس معه فأجابني على سؤالٍ كنت قد سألته له شو قصتك  يا أبو زكريا ؟  فحكى لي كل الحكاية .


د. عز الدين حسين أبو صفية

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصيدة/ذكريات ورياح 💎 بقلم /طارق حسن السقا 💎

قصيدة/خاب فيك ظنى 💎 بقلم /طارق حسن السقا 💎

سهد وسهاد /راويه عقرباوي