قراءات أدبية لنص الشاعر مصطفي الحاج حسين/ بقلم بسمة الحاج يحيى

*** قراءات ادبية ..
                     ( المبدع ذو الضفّتين ) ...
                         مجموعة قصصية
                    ( مصطفى الحاج حسين )

تقديم :  بقلم الأديبة والناقدة:
                   ( بسمة الحاج يحيى ) - تونس

**********************************************

للنخيل ظلالها، باسقاتٍ، شامخاتٍ، تنافس الطيور المحلّقة في السماء، جذورها تُسقى من نبع رقراق سلسبيل… تُلقي ظلالها حيثما طاب السّمر واللقاء…
ذلك هو الأديب الأستاذ مصطفى الحاج حسين أو المبدع ذو الضّفّتين كما سمّاه بعض الكتاب والنقّاد. فقد لَانَ الحرفُ بين أصابعه، فكتب الشعر منذ نعومة أظافره، متناولًا بذلك قضايا متعدّدة؛ فسلّط الأضواء على القضايا الاجتماعية، كما اهتمّ بتفاصيل الحياة العامّة ببلدته، ولم يستثنِ الشأنَ السياسيَّأثناء تناوله لكلّ ما يهمّ حياة الفرد، كما عطّر دواوينه الشعريّة بأجمل القصائد التي ألهمها أحاسيسه الصادقة، فنكهة العشق الشرقيّ تفوح من خلال رسمه للكلمات والمعاني… كما أبدع بكتابة القصّة القصيرة، وفي هذا المجال فقد تميّزت كتاباته بالشفافيّة والمصداقية، إذ استدعى شخوصًا من أرض الواقع لتستمدّ الأحاديثُ شفافيَّتَها من كاتب النصّ نفسه، الذي عكست كتاباته الحياة المتداولة واليوميّة، وخاصّة تلك التي عايشها بنفسه أو عاشها منذ طفولته القاسية، وصولًا إلى حيث برز في مجال الكتابة.
لذلك فقد اتّسمت نصوصه بكشف صريح لهمومه، خاصّةً منها ما يتعلّق بالدراسة، الّتي حُرِمَ منها منذ سنواته الصغرى لمّا كان بالابتدائية، ممّا دفع فيه أملًا إصرارًا عظيمين لتثقيف نفسه بنفسه، فتعلّقت همّته بما وراء المعاهد والجامعات من علوم، فنافس روّاد العلم، وتفوّق عليهم، والطموح يحذوه لطلب المزيد ودون توقف… نهل من العلم ما لذّ وطاب، لم تساوره القناعة وما أصابه الغرور يوماً. بل كان كلّما زادت معرفته زاد معها شغفه لطلب المزيد… وأجمل ما يؤثّث قصصه تلك الملامح الشفّافة للأحداث والسّرد السّلس للمشاهد وما تتخلّله من حوارات أكثر صدقًا من الواقع، حيث يتوغّل بأغوار النفس ليزيدها شفافيّة أثناء السرد…
الكاتب والشاعر العصامي التكوين هو من مواليد 1961 ومن سكان حلب، انقطع عن الدراسة مبكّرًا، واضطرّ للعمل بميادين عدّة مكّنته من الاختلاط بفئات متنوّعة من الناس، كما خوّلت له التعرف إلى قضايا المجتمع بمختلف أصنافها، ممّا أكسبه معرفةً وفطنة لأنواع الفساد المستفحل في العديد من المؤسّسات الحكومية؛ من ذلك الفساد المالي والمحسوبية وعدم الجدّيّة أو غياب الإخلاص بالعمل. وهذا ما أثار غيظه وزاد من شغفه للمطالعة أكثر للارتقاء بنفسه وفكره عن ذاكَالعالم. فسعى إلى أن يحوّل كلّ هذه الملامح على صفحات قصصه التي طوّع، أثناء سردها، قلمه، فانسابت كتاباته بلهجة ساخرة، متهكّمة على الشخوص الذين كان سخيّا معهم لدرجة منحهم أدوار البطولة، بل مكّنهم من دور الراوي، حيث جاء السرد على ألسنتهم، فكانت قمّة السخرية، إذْ يضع البطل في موقف لا يُحْسَدُ عليه، فيعترف بنفسه عمّا يجول بفكره من حقد وأنانية أو نوايا تعفّنت بأعماقه…
الكاتب والأديب مصطفى الحاج حسين، رجل قلّما تجود به الساحة الأدبيّة، فبرغم القسوة التي غلبت على تفاصيل حياته من داخل الأسرة أو خارجها، فقد جعلت منه إنسانًا مسالمًا، يرفض الظلم للغير ويدافع عن الفئات التي قست عليها الظروف كما قسى عليها المجتمع، فأوْلى هؤلاء حيّزًا لابأس به من مساحة ما نقله في كتاباته، فأقحم بقصصه أبطالا واقعيّين قست عليهم الحياة والمجتمع على حدٍّسواء… ومن هنا تأتي مجموعته القصصيّة هذه لتشهد ميلاد ملحمةٍ أبطالها شخصيّات متواجدة بكلِّ زمان ومكان؛ هم الإخوة والاقارب، هم الأصدقاء والزملاء بالعمل، هم المسؤولون والعمّال بمختلف القطاعات… المبدع والكاتب ذو القلم الجريء، لم يدّخر تفصيلة واحدة ليغوص بأعماق الأحداث، فكتب بكلّ عفوية وشجاعة مميّزين. و هذه المجموعة القصصية تحوي خمسَ عشرةَ قصّة لا يخلو أغلبها من الرّمزيّة، فقد ترك الأديب مجالًا للقارئ ليكمل ما بين السّطور، فاسِحًا له مجال التأويل، بحيث لا يصعب عليه، خلال قراءته للأحداث، أن يلحظ البعد الثاني لكلّ قضية قَيْدَ الدّرس، خاصّة عندما تكون البطلة امرأة أو مستضعفة وينهش لحمها القريب قبل البعيد، أو عندما يقف الجيران مكتوفي الأيدي، فحتمًا أنّ تلك الأرملة أو الثكلى بائسة الحال لن تكون، بمواصفاتها تلك والشبيهة جدًّا للمضطهدة والسّبيّة، إلّا رمزا لدولة عربيّة استخفّ بها ربّ العائلة قبل أن يفسح المجال واسعًا للأجوار كي يكملوا رسم عنفهم بجدارة فتكتمل المأساة…
هذه المجموعة القصصية هي نافذة للآخر، للقارئ، لكلّ من شعر بالظلم في أيّ مرحلة من مراحل حياته وخلال صيرورة البقاء من أجل الحياة، ولم يسعفه خياله ولا قلمه ليعبّر عمّا يودّ كشفه علنًا.
فهذا الكتاب هو بمثابة صرخة عالية، آهة شاهقة التردّد ليعود إليه صدى صوته من خلالها. هي نفحة يتنفّس عبرَها القارئ ليسمع أنينه لمّا يصير الألم لذاذةً نكتبها لتُقْرَأ، لمّا يصير الشجن وليدًا نحضنه ونطبق عليه، فنحتويه داخل أضلاعنا، نلفّه كما تلف الأم وليدها، نلفّ أحزاننا حتّى تصير جزءًا منّا، حتى تتشابه ملامحنا به، فنراها منعكسة بمرآة الحروف تتكاثف وتتراصّ، تتّسع وتتمدّد، تتوغّل في أعماق النفس ثمّ تسبح في فضاء الخيال؛ لتكتشف أنّك تقرأ للأستاذ مصطفى الحاج حسين. فتعجب كيف أمكن له مسك كلّ تلك التفاصيل الصغيرة والتي ساهمت وإلى حدٍّ كبير في بناءٍ شديد الارتفاع استدرج خلاله كلّ التفاصيل؛ ذوات، فواعل، شخوص، جميعها تحضر لتنسج كلّ المعاني، فيحضر السرد والخطاب منسجمين إلى حدّ الجماليّة بلغة سلسة مستساغة، لكن لا تخلو من إبهار القارئ الذي يمسك بتلابيب الصورة والمشهديّة حتّى النهاية، فلا نقف معه كــقرّاء، على فواصل، إذ الكتابة فيض من التشويق، يأخذ بنا إلى ظلال الحدث، فلا نتوقّف حتّى نبلغ النهاية… كالمياه تنساب الكلمات مسترسلة والحبكة مكتملة الجماليّة، عذبة الخرير، فلا تشعر وأنت تقرأ للأستاذ مصطفى بالملل، بل هي تأخذك إلى عمق الحدث وبكلّ نعومة الاسترسال… قلم جريء ومعطاء، بجرّة يأخذنا إلى عوالم قصصية تشير إلينا بإحكام ربط حزام الأمان، لنسافر عبر الكلمة الحرّة والصادقة بأجواء يغلب عليها طابع الواقعيّة، فتُجنّد الخيال فقط لخلق مسامرة بين هذا وذاك، بين نفسك تراها بمواقف وحالك لو استفدتَ ممّا هو مغاير، لتحصل تلك الإضافة من خبرات الكاتب، فيحصل ما يسمّى بالمساهمة خلال عمل تشاركيّ بين الكاتب والقارئ، تسهم بها في تطوير ذاتك، وإلّا فما نفع المطالعة لو لم تضف للقارئ فيتمكّن من تطوير فكره عبر تجارب الكاتب؟ قصص تحمل أكثر من دلالة في هذه المجموعة… نصوص تحملنا إلى ضفاف النهاية بمهارة ربّان يحمل أفكاره وتجاربه وبعض خصوصيّاته مرتسمة ببعض أركان النصوص… قلم مشبع بالسخاء حدّ الاكتفاء، بل يحملنا إلى ارتفاعات شاهقة من الجمالية وارتفاعات أخرى تفسح مجال التأويلات المتاحة، فيكتسي النصّ، على يد المبدع، تأشيرة للسفر والتوغل داخل خبايا شخوص القصّة…
مجموعته القصصية هذه، جاءت لتلخّص مسير حياته ومسارها، فكأن كاتبنا “عبّاس محمود العقاد”، و هذه تسمية أطلقها عليه الأديب والناقد الأستاذ محمد بن يوسف كرزون، الكاتب والناقد السوري الأصل، الذي لقّبَ الكاتبَ الأديب مصطفى الحاج حسين بالعقّاد الثاني، لما وجدهُ من أوجه تشابه حقيقيّة بين الشخصيّتين الفذّتين، عبّاس محمود العقّاد، الذي لم يحصّل في تعليمه أكثر من الشهادة الابتدائيّة، وكاتبنا مصطفى الذي لم يحصّل حتى الابتدائيّة في تعليمه… كلاهما كانت ثقافتهما ذاتيّة في صبر ودأب وحرمان كثير ممّا حصّلهُ غيرهم، فكان أنموذجا حيّا للإنسان الذي عمل على تغيير الوضع السلبيّفي محيطه ومجتمعه ككلّ، لإيمانه بأنّ الكلمة والأدب إن لم يغيّرا الشعوب فلا جدوى من الكتابة أصلًا… فإن لم نستظلّ تحت أغصانها وارفة، فلن تكون غابات كثيفة بما تحمله من معان وعبرة ترفرف بأجمل الكلم وتهدينا رفيفًا عذبًا لكلّ معنى ينساب عند كلّ نسائمها المنكهة أدبيّات؛ من قصص وشعر…
تلك هي الظلال، وتلك هي النخيل الباسقات تحملنا إلى عوالم قصصية، ترفعنا إلى التحليق عبر مجموعة «المبدع ذو الضّفّتين» بقلم الأستاذ مصطفى الحاج حسين… قراءة ممتعة.
                        بسمة الحاج يحيى

                                تونس

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قدساه أبشري كلمات الشاعر محمد عبد العزيز

تبعتها /الهادي عباس

بالروح بالدم نفديك يافلسطين / عاطف محمود